الخميس، 13 أكتوبر 2011

القصة الكاملة ( نــــــونــــولا )nounoula


قـــد يـــرسمنا القـدر قصيدة بحروف تعانق القمر ، و قد تكون الريشة مساحة من ألــوان تهديــها الشمس على كف الزمن ، وقد تكون دمعـــة في السحـــر تنسينا وجع زفرة في رمضاء البصر ، وقد تكـــون حياتــــنا متعبـــة من يوميات سفر ، وقد يهدينا الحب بوخـــزه عندما يــدق على باب قلب نظيف نــطر ونظــر ، وقد يموج المـــوج معانقا أرواحنا في لحظة السهــر ، و قــد يعطرنا الفجـــر بنسمة تلفــح وجه الــورد والــــزهر ، وقد تكــون الحكايـــة كالبدايــة فــي تعاقب الأيام واللــــيالي وسنـوات الجمـــر .......
كم يحبك الحرف وأنت هناك ؟ أين ؟ لا مفر ...؟..
لم يكن يدر أن العواصف الهوجاء ستحمله عاليا يناطح الذكرى والأفاق ، يدقق النظر في مسامير الحياة ، تقذفه الأمـــــواج الصاخبة بين حرقة الشوق ولذة النفس والقلب وسمو الروح ، لم يكن يسامر على مر سنوات عمره ، كان يبحث عن أملــه في سراديب الحياة ، في أغوار الأرض وفي فضاء السماء ونور القمر وإشراقة الشمس كل صباح ، حملتــه أمـــه كما تحمل حرائر المدينة وضعته ليلة تساقط وريقات الشجــر من شهــر يقدسه المسلمون ، شهر تنقي فيه النفس من درن الجاهلية .
خرج إلى هذا العالم الصاخب وضوضاء الأشياء وفوضى الأفكار يشق طريقه نحو السؤدد يحمل رآيته كما يفعل أصحاب الهمم والمبادئ ، سار وفي مسيرته ضل يراقص فرحة النجاح عـلى سمفونية الأمل ، دخل للجامعة وكان الحـــلم الــذي حقـــقه لوالديه ولكل العائلة ، كم كان جميل ذلك الـــيوم حيـــن رفعت رآيات الزغاريد عالية ، وذبحــت الذبائـــح ووزعــت الأطعمــــة والمشروبات على الضيوف ، هي مراحل من عمره كان مميزا ببساطته ،عزيز النفـــس ، رقيـــق الشعور بتواضعه كان يحلم ويحلم ومن حقه أن يحلم .
دقت رقائق الروح أبواب قلبه من أسوار العقل مـــرات عــديدة وهامت به حمائم الطيف وعبق الحياة فسهـــر وكتب ومـارس الصحافة يبوح في السر والعلن ذكرى الأيام و نسائــم الحـب .
سافر وكان دائما مسافرا وهو ابن الخامسة والعشـــرون من عمره فــدرس بعيدا عن أهله و هــو إبن الســـادسة عشــر ،أمضى سنوات الجامعة على شاطئ البحـــر أدى الـــواجب الوطني فهو رحالة من الزمن البعيد ، لم يستقر فكان كالطود الشامـــخ أو كالنســر الذي لا يـــروق له المكــــان الجامــد.
حمل حقيبته كالعادة ممتطيا جواد أفكاره إلى المدينة البيضاء زارها وهو ابن الثامنـــة عشــر فأنبهــر بجمالــها الساكن في أعماق الحضارات البائدة ، عاشها ليلا وغادرها الصباح وهاهو اليوم يعود إليها وهو ابن الثانية والثلاثون في مهمة ، ما أكثر مهماته في فترات الزمن المتلاحق، كان المــساء ... دقـــت ساعة اللقاء بالبيضاء الجميلة وزرقة شواطئها وعنفوان حركتها وصخب شوارعها.
وصَل وفي وصوله كانت الأيام تُبشر بدخول شهر مايو من عام ألفين واثنين ...، كانت الأفكار تدور بخلده تحمله ..، تَرفعه ...، تَضمه و تُبعده عن الأمــل الذي ضَل يبحث عــنه وكأنه لم يَتعب من السفر الطويل.
جَلس يتناول وجبة الغذاء ومن حَـــوله الأجسام المترامية في زهو الأيام واللقاء.. ، كان وحيدًا رغم تلك الجُموع ...، كان بعيدًا رغم قرب تلك الأجسام .....، كان صامتا خاشعا شاردا رغـم تلك الدول السعيدة والعابسة ...، كان يُراقب في صمت عَميق يُدقق النظر في تلك الأشـــباح الجميــلة و هــي تَتدافع وكأنها تَرقص على أنغام الصبابة و الصبا .
كان كعادته عــندما تُتعبه النَظــرات .... يَحمل ما تَبقي من الطعام و يخرج في صمت وكبرياء حَزين ....حتى وإن رسَم على شِفاهه ابتسامة عَريضة...؟
هُنيهة.. تَحركت عَيناه فجأة .. شُدت .. تَوقفت مُستعدة كالجندي المَأمور.. رَاقبها من بَعيد .. حَماها بقلبه من تلك النسمات التي تُراقصها كلما دخلت المَطعم.. غَار منها.. سَل سيفه دون وعي .. وقفَ شاهدًا أمام المحكمة يُدافــع عن تلك البراءة.. ، لم يَدر كيف حدث هذا الــبركان الذي خــَـلخل توازنه وأثاره بعدما جمدته الترسبات وعُنف الزمن. ؟
تَوقف ودار إلى قلبه سَائلا محتجا .. ما بك.؟ ماذا أصابك .؟ هل جُننت .؟ عــد حيثما كُنـت .؟ تَعالت الأصوات.. وأضحى الــلوم الشــَـديد يَرفعه العقل في وجه القلب الحَائر.. فسأله.. بعدما أتعبه الضَجر..
أيها القلب المتيم
من دهاك
من زعزع شراعك العاتية
في بحر الأقحوان
من رماك بسهم طاعنة
من فتش دفاترك القديمة
من أزال الغبار عنها
من رتبها
من جدد لك الحرقة
بعد النسيان
أيها القلب المتيم
من دهاك ومن رماك
كانت عالية تُراقصها نَسمات اللــيل .. تُداعب خَــصلات شَعــرها رقائق الروح المطمئنة .. وعلى محياها رُسمت الـــبَراءة في عِز الطفولة الهادئة الجميلة ..، حَملها قلبه ..، رَاقت لها العَين ..، هَامت لها الرُوح ..، وقَف العقل مشدوهًا يَتململ من شِدة القَيد و رَوعة اللِقاء.
سَار خَلفها كالجندي المُنتصب في سكون عَميق يُتابع خَطواتها المَلائكية ... دَفعه قَلبه بعدما اسْتجمع قِواه كُلها سائلا .. هل لي أن أكلمُك.؟ رَدت كالصَاعقة المُميتة .. لا يمكن .؟ و سَارت في هَودج الأيام الجَميلة تُراقص نَسمات الليل خَصلات شَعرها .. و عَصافير الرُوح تَحمل نَشوة النفس وعَبق اللذَة.
تَوقف عن السير .. رُدت له الــرُوح .. سَقــط العقل مَغشيًا عليه .. رَاحت النَفس تُناجي رَبها .. ما أعظم تلك النَفس إذا أبَت أحْييت بِسحر الكَلام..، وإذا رَضيت رُزقت بِفضائل الأحــَـلام..، وإذا عَاشرت رَحمت بِلطف الأنام .. ، وإذا أعْطت سَخــت بِـمكارم طائي الجِنان ..، فالله الله الجليل من جَعل سَكن آدم عند حَواء الفَضل والأرحَام .
قال لنفسه : متمتما..
لقد كان من قبلك
وسيكون من بعدك
لكن أنت الوحيدة ..؟
التي وقف عندك الكبرياء
فاستقام ..
وأحبك القلب برغم ما كان
وما يكون ..
برغم البعد والجفاء وظلم الأيام.

وقف مشدوها..حملته نفسه المثقلة ..، سار وفي مسيرته ..،كانت الأقدار تســـابق المكان والــزمان ، كان كالقائـــد الذي لا يأبـــه بــضروب المسير ومشقة الحلـــم عـــلى جنوده وقــوة المعركة ..، تــوقـــف حامت حــوله نسائــم الرغبـــة الجامحـــة ..، زادت نشوة اللقيا لهفــة اللقــاء..، إستجمع قـــواه وصــاح كالرعــد في تلك الجموع الغفيرة عدد مناقب خصاله.. فـــــذكر العقل باتزانه ... والنفس بكبريائها .. والقلب بعمق الحب الذي يحمله بين جنبيه .. وو..
داعب رقائــق الشــوق بندى الصبح الفاخر إستوقفها .. وقفت . والشموخ الرهيب يملأ المكان ..، نظرت و في عــمقها كانت هادئة خاشعة فــي صلاة الحب .. ، راح يحـدث تلك النسائم والحمائم وأوراق الشجر ..، كان بعمقه مشـدوها إلى البدر تكسو محياه إشراقة عميقة عمق حضارات الأمم الشامخة.
حدثها حدثته .. وطلب منها موعدا للقاء ... قالت له : سأفكر .
رجــع مثقــلا مـن معركة البداية تقفــز نفسه بين نشوة اللقـاء وصعوبة المسير..، ظـل يحدث نفســه ينظــر في المرآة تارة و في هندامــه مـــرة أخرى .. كان يتجمــل يعيـد سيناريوهات اللقــاء .. كيف يحــد ثها ..؟؟ كيف يســتمع إليــها .؟ و..و ..و..و مـــــاذا يستحـضر ..؟، هنا تــذكر نشوة الشعر ..، أطلق العنان لسحره ..، يتمايل حيث مالت القوافي ينتصب عند إبــداع الكلمة ..، يذوب بين السطور يبحث عن النشوة ...، فمرة في بيت نزار قباني يعزف على آلته.. ، ثم يقفـــز إلى حديقــة محمــود درويش وأخرى يحاول أن يصنع لنفسه مجدا فيذكر خربشاته التي كان يدونها في دفتره أو ما نشره على صفحات الجرائد الوطنية .
كان دائما يتحين فرص اللقاء ..، كانت بعيدة تلهبه بقوامـــها المقدود ..،وكبريائها الفتان وسحر ابتسامتها وهي تبادلهــا للصديقات والــزميلات ., وكأنـها رئيس الأوركسترا توزع تلك الأنغام و تحدد معالم السيمفونية .
كان مــرات تحدثــه نفسه عن الفشــل.. ، عن الذهاب دون رجعــة ..، عن الغوص في أعماق النسيان ..، فينتفض منزعجــا رافضــا كل الاستسلام والقنوط ...، كان يحيا بذكر اسمها حتى من صدف الأقـــدار فهي حــواء التي أسكنت أدم جنته فلا يمكن أن ينسى هذا الاسم ولا أن يحفظه سرا ....، بل كان في كثير من الأحيـان يذكره في العلن فيوهم المستمع بأمنا حواء وفي قلبه نبض من حواء التي رسمت مــعالم دنيـاه بلقائها ..، كان جد مضطربا عندما أعطته موعدا للقاء ، كان منزعجا أن تــخالفه فــهو في ذاك اليوم أصــر على أن يحافظ على اتزانه وأن يظهر قــدرته راســـما معالم الشموخ ..، غير أن قـــلبه وجوارحه ظلت ترقص على مـــزيج من السيمفونيات المتداخلة ..، كان يجلس ثم يقوم ..، ثـم ما يلبث أن يقــوم من أمــام الطاولــة..، ثم يجلــس ثم يحـــتسي من فنجــان القهـــوة..، ثم يقوم لإحضــار زجاجة من المشروبات الغازية ..، ثم يتناول قليل منها ثم يمزجها بقليل من القهـــوة ..، كان يتفاعــل مع أنغام المزيج الإرتعاشي ..، فكان راقصا من طراز غريب وكأني به يريد أن يبدع نظرية جديدة بين الحب والجنون.
طلت كما تطل الشمس معلنة عن بداية يوم جـديد ..، عهد جديد ...، حياة جديدة ....، في لباسها الأنيق تقدمت ....، وقف.. تصلب .. استقام الكبـرياء.... مال كما تميل زهرة الشمس مع أشعتها ..، انتصب قلبه ..شدت أنفاســــه ..أحس بقشعريرة تزور آخر خلية في جسده ..، هام بها مـن بعيد راقبها بشدة من أخمص قدميها إلى رأسها ..، امتلكه الفزع مع الفرح.. ، جلـــس على الكرسي.. وصلت – سلمــت و بعثت تحيــة السلام ..، قام من مكانه تلعثم لسانه..، هربت كل الحروف من جوفه.. ، أصدر إنذاره للذاكرة كي تتجلد تملي عليه أفضل تحية ..، غادرته وتركته يتخبط لوحده .. سكنت جـــوارحه تجمـــدت ، خانتــه الحــروف و ضاعت الكلمات ، طأطأ رأسه رد السلام ورسم ابتسامة عريضة بولادة جد عسيرة ..
جــلست .. رفع رأســه يختلس النظرة .. كانت الجمـــوع مــن حولــه سعيــدة تضحــك .. تــنكت ،ترسم لــوحات المــرح والســـرور ، كان يومهـا صامتـا خاشعا في رهبانية صوفية يســـرق النظــر من خلــف تلك الكتل البشرية المحيطــة بهما ، كانت كمــن تربعت على العــرش وأصــدرت أوامــر السلطان ...، هادئـــة في مــلائكية الأطفــال.. ، مثــل مســك الياسمين وعلى محيـــاها رسمت لــوحات أعظــم الفنانين حـتى موناليزا أخذتها الغيرة وكشــرت عــلى أنيابهــا.. فالشعـر الأسود المسدول على الطرقات تراقصه حمائم الليل الساهر..، والعــينين السوداويين العــميقتين بهمــا كحل داكــن يحتويهمــا بياض ناصــع كالثلج...، والأنف منحوت كالفخار الناعــم ..، والخد مـــورد بأزهــار الليمون..، والشفتين كورق الزيتــون ولون الرمـــان.. ، والوجه كالبــدر المرسوم ..، والقد ممشوق موزون ..، وعلى شفتيها سحــر مرسل و براءة مـن عينيها كالطفل في الحضن الحنون ، يا قلب ... هي إمرأة .؟ أم حور مكنون .؟
كان يدقــق يبوح سرا يتمتــم يرســل رسائلــه إلى الشجــر ونسائم الليـــل و كل الكـون ..، يرحل عبــر قصائــده يُسقطها تارة عــلى الملاك الجالس ثــم يرفــعها يغير الوزن والنون ...، هكذا سارت قصائده وسار معها عبر كل لقـاء كان يجمعهما ...، كانت دائمــا تتجدد عندما يجتمــع الزمـلاء ينسحب بهدوء.. ، يراقب خيالها العلوي يعزف عبر حروفه أنغام الموسيقي وسيمفونية الألحــان حتى ترفع الجلســة وتغادر المكان ليخلد الجميع للنوم ساعة فغدا يوم شاق وطويل ..، عندما تقف يقفز قــلبه من أســوار عقله مرغما بطعنة مفاجئة..، يبحث عن عــذر لإطالــة زمن اللقــاء يُكذب عـــقارب الساعة يتهمهـا بالاحتيال وعدم المساواة والعدل يرفضها يحاول جـاهدا متعللا .. هذا الجو رائع والهواء مستطيب لروح النفس وهذه الجموع كلها لم تغادر فلنكن مثلهم.. غير أنها إذا أقرت نفذت بسرعة فهي لا تقبل أن تناقش عندما تقرر..، فهــي كالسيف الـوردي لا تؤجل... ، ثم ترسم على محياها ابتسامة تشع منها أنوار المدينــة الساحــرة وتحمل نفسها علــى ريش الحمــام و تغــادر ..فيرافقها بقلبه وعقله والجموع من حوله في صخب وهزل ودردشة التوافق والانتماء.
ذات مـــرة و هم عــلى تلك العــادة بين اللقاء والافتراق عبر أمسيات الليل الهادئ خطت بخطاها فزلت قـَـدمها فَتعثرت فأمسك بيدها و قــــال :.. الله.. فاستندت عليه وبقبضته المشدودة ...استقـام عندها أحس أن كيانه سقط ، عندما رأى أنه في الموقف الحاسم كالقائد الهمام سمــا شُموخـه وعلا قدره وأحس بكبرياء وقدر المسؤولية.. ، وحدث نفسه بشغف عظيم كنت وكانت هامتــي بقــدر العــز و الفخــر فـامتلكته كتلة من المشاعر لم يحس بها إلا ويدها الصغيرة البيضاء الرقيقـة الجميلة تحمها يد الرجولة والخشونة والحرم المتين .، فنظرت إليه بعدها بعين الحب .
ظلت الأيام تتــوالى تتسابق بســـرعة ..،وهو كل يوم تشــرق شمسه يــزداد تمسكا بهــا كالنحات الذي يحدد معالم تمثالــه بــدقة و فن...، فَيظهــر في الشكل المنحوت جمالا يخلد جمال الجزء الأول.. ، هكذا سارت أيامه ولياليه ..، فهي امرأة جديدة متجددة فنانة تتقن فن النحت على القلوب بدقة وروعة ..، هكذا رسمت ذكراها كالمــرأة التي تتسلـى من خلف الستار..، أحبها بصدق رســم معالم الرجولـــة الحقة في فعله صارحهــا أعلن التمــرد عن الصمت القاتل.. ، أطلق صــرخة مدويــة في الأفاق والأرجــاء ...، في المدائــن وأمواج البحـــر وزخات المطر ...، للندى الماثل على أوراق الشجر... ، كان يومها قد خرج معها بدعوة ملحــة لتنــاول فنجان من القهــوة في إحدى الصالونات المحترمــة جدا والفاخرة ...، سارت و ظـل يتابع المسير ...، جلست أمامه وهي في أناقة وكبرياء. ، جاء النادل .. طلبت عصير الفواكه وطلب هو فنجان من القهـــوة الســوداء ..؟ سكت بُرهــة من الزمن .. كانت تلبس نظارة سوداء جميلة ... سألها كيف الحــال ..؟ قالت في عــزة النفس : .. بخير . قـــال : و كيف حالك في العمل ..؟ قالت : على ما يرام .
حدثها ... حدثتــه .. كانت إجــاباتها محددة وقصيرة .. فهي امرأة جادة لا تعرف الهزل . ثم خاطبته : ثم ما ذا بعد ... رد بسرعة :.
قــال لها : أحـببتك .. و كأنـي بالحب يـزور تفاصيل خلاياي.. ، أو ربما يُنقب في مساحات اللهفة التي ترسمني في غرف الليل المظلمة ...، كأني بك تشدين بتلابيب الروح التي مـزقها عــنفوان الكبت..، ووجــع الروح ..، واستكانة الجوارح...، في هذا الصقيع الذي يلفني منذ عشرية زمن .. وانا انتظر على قارعة الرجاء ..
قالها و هو ينظر في ملامح الروح التي زينت محياها ... ينظر في إستدارة البدر وهو قائم ينير درب الساهرين ..، يتلمس من وجع الفنجان حكاية الإختمار بالدهشة ...، رأها هناك تغتسل في أحداق عينيه ...، متسربلة بطيف العشق وخمرية اللـون ..
صمتت طويلا وهي تنظــر في بريــق عيناه الشاردتان.. ، العميقتان ... الهاربتان كالفرس جموح فــي مـيدان الركض ..، تسرق في هدوئها أستكانة الوجع القائم ..، كأني بها تريد أن تحملها على كــف البساط لتهديه قبلة المساء ....
يغلبــها الخجــل فـتنحي روحــها في رفعــة و نقــاء.. ، تشرب بين اللحظــة و الأخرى من كأسها نبيذ العصير المعطــر بوجعــه.. ، كأني بها تحدثــه في تمتمة الهمــس :
رويدك يا حبيب..، لا تستعجل قدومي إليك ...
هكذا رددتها... بين الرموش والشفاه ..
ثم قالت له : تَستعجب الحدث : بهذه الســرعة أحببتني ..
وماذا تعرف عني ..؟ ، لم تعاشرني ...؟ من الزمن غير سنة ...، لــم تسمـع مني كلمة همس الحــيارى .. ، ولم تـر إلا هذا الجسد القابع بين جــداول أصابها التبلــط بشيء من الخوف والحذر ...؟؟
كانت منطقية ثابتة لا تؤمن بالعواطف دون أن تمر على سلطان العقل .
حــدثته ساعات من الزمن.. ، يكرر السؤال في كل جلسة ..، تأتي إليــه وهي تــسارع خطوات اللحظــة والعناق.. ترسمه بين عينــاها كالكحل فتزداد أغراءا بالأحضان..
كانت تعيد نفس الحديث البالي من أول لقاء.. ، و هو يعيد نفس الصور المتجددة ، ذكرته بالماضى القريب والبعيد.. ، و حدثته بتفاصيل الرواية ..
أمسك بيديها الصغيرتين و ألبسها ساعة من الطراز النفيس وهمس في روحها
قائلا :
أنا إبن اليوم .. ، و اليوم ميلادي بين يديك لتكون عجلة الحياة قد بدأت في الدوران .
قالت له : كن صديقي .. أولا ..
لم يسمعها أو انه لم يبال بما قالت ...
فهو مملوك بالدهشــة منذ الوهلــة الأولى و ما صمتــه و مدة اللــقاءات إلا تمحيصــا لما يعرفــه.. ، أو يكون قد قــراءه في الكتب ( كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس) لمؤلفه كاريل ديجي ...، أو ما درسه في علــم النفس ( التكوين العــملي ) ...، أو عاشـــره من خـــلال تجاربــه الجامعيــة أو العمليــة ...، فهــو كما يعتقد أنه يملك رصيـدا مـن الخبرات ( الحاسة السادسة ) كما يزعم بذلك و يعتقد .؟
كانت نظرتــه أو ربما مخزونــه الذي يوظفه في مثل هذه الحالات المصيرية ..،
لكنها ظلت شديدة متشددة ..، فبقـدر البراءة الساكنة في الملامح بقدر العزم والحرص الشديدين ..، فهي امـــرأة ليست لعوبا أو ماكــرة تستغل فرص اللقاءات المتــكررة ...،
أما هــو فقــد كان يتسلل من خــلف جداريات الــزمن المتـلاحق ...، كان يبحث عن قارب نجاة...، كان يربط بين اللحظة والأخرى ...، فهــي بالنسبة إليه كالـــروح للجسد ...، كان يراقصها في أحلام اليقظة... ، تؤنسه في أحلام المنام ...، كانت حريصة كل الحرص ...، لا تقبل بانهزامية الأشياء ...، كانت جليده في مواقفها ...، عندما فكــر يوما في أن يقدم لها هدية كان مهلوسا... ، كان يبحث عن أية مناسبـة ...، المهم أن يقدم لها شيئا تذكره به في الغياب ...، فتش بعمق في دفاتر معلوماته عـنها ...، في خصوصياتها ...، لم يجد إلا أنها متحصله على شهادة الليسانس في علـــوم الاتصــال ...، عندها فقط تذكر أنــها تشبه اهتماماتــه ....، فكان القلــم ومجسم منقــوش عليه أول حــرف من إسميهما...
هنا القلــم هو الوحيد السيد / الذي يــربط بين هائــم .... و قائم جليد ..، بين غارق ... وغواص شديد ..، بين جريح ... وطبيب عاقل رشيد .... ،
صدح بمشاعره ، مزق ستائر المعاني الخائفة.. ، كشف عن رغبته ، و طلبها للزواج...
قالت له :.......بعدما ما رتلت قصيدة ( أنامل الندم )
للشاعر : محمد البنأ ..
قالت : حبيــــي..
القرار ليس بيدي .؟
و بكت طــويلا .. طــويلا ... بكــاءا مريرا ..وما نسته لحد الساعة ....، وتمنت لو كنست الأرض بريش الحمام ليأتي بعدما رحل ..
آآآآآه..
آه يسقط من هامته... ، إنكسر عوده ... ، وسال العرق البارد يقتل كل حركة ويطفئ كل شمعة أضاءها
في دهاليزه الحالكـــة ..، رأى تلبد السمــاء ..، والعواصف الهوجــاء ..، وتساقــــط أوراق الشجــر... ، سمع نواح العصافير المهاجرة في الليلة الظلماء الصماء عن جنته الخضراء ، نزفت جراحه وتحسر القمر وبكى .

وبكى بحرقــــة ..
كانت خاتمتها صاعقة قاتلة..، سكت طـــويلا.. ، وقف على حافة مدينته الحزينة ..، ينظـــر في الأفاق المزدحمة المتشابكة السوداء.. ، عمق النظر.. ، مالت به العواصف حملته على كفنها تقتاده إلى عالم الحب والجنون .؟
نظر إليها نظرة عميقة عمق البحار الهادئة... ،و انتصب مثل الجبال الشامخة... ، ثم أخذ نفسا عميق مثل البراكين الثائرة ...، ثم أخرج زفرة الـــرياح العاتيـــة و العواصف الهوجــاء وخاطبها ..
قائلا :... سوف لن أموت ما دام قلبي ينبض بالحب ..
وبكي في صمت ..
وقال قصيدته /...
وقال : .......
----**( و سَقطتٌ من كِبريائي النَازفُ )**-----
حنين في عيون العاشقين
لم يموتوا وأضعناهم بعد الموت المؤجل
أولئك الذين عطروا بقائي
في صرخات الليل أدركتهم
كخيوط بيض في شعري
حب هناك
وأنا هنا
بالإيمان حبي الكافر
وعناد الصبح القادم
سكينة الكف تعلن صمت الطبول
والوجوه فرت من نغمات
أنا الخارج عنه
جديد الغياب عودة إليه
ذاكرة الشوق مهدورة
أموت في الدورة مرتين
غيري حنين يفرقه
والسجن في جرأتي أنا
قادم فصل من عنوان
تنصهر ألوان الجموح
ينزف علوي من أدراج السقوط
يتدحرج بمرارة الظلمات
أهرول في عطش الذاكرة .
----------------**--------
---------
وأخترت قصيـــدة الشاعــر 
/ محمــد البنأ /( * أنامــل النــدم * )/
لأنها فعــل تعبــر عن نهايـــة (( القصـــة الواقعيـــة )) بقالب شعـــري ، هي الحقيقة كشاهد ،و بعد صداقة دامت ثلاث سنوات كاملة بكل مافيها من مسرات ، وسرائر ، وصور فــي قمة الإنسانية الخلاقة ........... ينحني للقدر مؤمنا باليقين ......

القصة كتبت تفاصيلها بالجزائر العاصمة الموافق : 23 مارس 2003

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق